فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



خامسا: المادة بين الكواكب والنجوم والمجرات:
تنفي وجود فراغات في الجزء المدرك من الكون إلي عهد قريب كان علماء الفلك يعتقدون ان اجرام السماء تسبح في فراغ تام ولكن البحوث المتأخرة اثبتت ان المسافات بين كل من النجوم وتجمعاتها المختلفة (المجرات وتجمعاتها الي نهاية الجزء المدرك من الكون) تنتشر فيها الاشعة الكونية وما تحمله من جسيمات اولية والدخان الكوني ومايحمله من هباءات الرماد بالاضافة الي مايعرف باسم المادة الداكنة والتي اقترح وجودها الفلكي السويسري فريتز زفيكي في سنة 1933 م حين اكتشف ان الكتلة الكلية المحسوبة في كوكبة العذراء تفوق بكثير مجموع كتل المجرات المكونة لها وفي سنة 1992 م أعلن علماء الفلك والفيزياء الفلكية الاحتمال الكبير لوجود تلك المادة الداكنة والتي لا تري والتي يقترحون انها تتركب من جسيمات ذرية جديدة لم تكتشف بعد وتسمي الويمبات أو الجسيمات الثقيلة التي تمثل نوعا من الخيوط الكونية التي تربط اجرام السماء وتحمل الاوامر الكونية كما تحملها لبنات الشفرة الوراثية في اجساد الكائنات الحية وربما تفسر المادة الداكنة الكتلة المفقودة في الكون كالتي ادركها زفيكي في الثلث الأول من القرن العشرين وكذلك يمكن ان تفسر طبيعة مناطق الجاذبية العملاقة التي تربط التجمعات المجرية العظمي مع بعضها البعض.
هذه الادلة مجتمعة تنفي وجود فراغات في الكون المدرك وسبحان الذي أنزل من قبل ألف واربعمائة سنة تأكيد هذه الحقيقة الكونية فقال (عز من قائل):
أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج؟!. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في البركات:
وقد وردت البركة في القرآن في أَربعة عشر شيئًا:
الأَوّل: في الكعبة التي هي قبلة العالمين: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}.
الثانى: في المَطَر الذي به حياة المتنفِّسين: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا}.
الثالث: في السلام الذي هو شِعَار المسلمين: {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}.
الرابع: في أَولاد إِبراهيم خليل ربّ العالمين: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}.
السّادس: في أَولاد نوح شيخ المرسلين: {يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ}.
السّابع: في الأَرض التي هي مَقَرّ الآدميين: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا}.
الثامن: في البُقْعة التي هي محلّ موسى حيث ناداه ربّ العالمين: (فى البُقْعة المُبَاركة).
التَّاسع: (فى نار موسى ليلة طور سينين {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} أي في طلب النار).
العاشر: في شجرة الزَّيتون، الممثّل بنور معرفة العارفين: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}.
الحادى عشر: في المسجد الأَقصى الذي هو مَمَرّ سيّد الرّسل إِلى أَعلى علِّيّين: {إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}.
الثَّانى عشر: في ليلة القَدْر التي هي موسم الرّحمة والغفران للعاصين والمذنبين {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}.
الثالث عشر: في القرآن الذي هو أَعظم معجزِات البَشَر: {وَهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ}.
الرابع: عشر في المَنْزل الذي قُصِد، لا على التعيين: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا} أي حيث يوجد الخير الإِلهى.
والبركة معناها ثبوت الخير الإِلهى في الشئِ.
والمادّة موضوعة للزوم والثبوت.
وقوله- تعالى- {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} سمّى بذلك لثبوت الخير (فيه ثبوت الماءِ في البِرْكة.
والمبارك ما فيه ذلك الخير) وقوله- تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} تنبيه على ما يَفِيض من الحياة الإِلهية.
ولمّا كان الخير الإِلهىّ يصدر من حيث لا يُحَسّ، وعلى وجه لا يُحْصى ولا يُحْصَر، قيل لكلّ ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك، وفيه بركة.
وإِلى هذه الزّيادة أشير بما روى (ولا يَنْقص مال من صدقة) لا إِلى النّقصان المحسوس، حيث ما قال بعض الملاحدة الخاسرين حيث قيل له ذلك، فقال له: بينى وبينك الميزان.
على أَنَّ عمّى- وكان من أَكابر الصّالحين- أَخبرنى أَنَّه كال كُدْسًا من الطعام، ثمّ أَخرج منه الزكاة، ثمّ إِنَّه كاله ثانيةً عند النقل إِلى المنزل، فوجده لم ينقص شيئًا من الكيل الأَوّل. اهـ.

.تفسير الآيات (12- 15):

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وصل الأمر إلى حد لا خفاء معه، فصح أنهم يعلمون ذلك ولم يحملهم على التصريح بالتكذيب به إلا المبادرة إلى ذلك بغلبة الهوى من غير تأمل لعاقبته، فصار من باب لزوم الغلط، وكان السياق لإنكار البعث الذي جاء به منذر من القوم المنذرين، كان كأنه قيل: إن إنكار هؤلاء أعجب، فهل وقع هذا لأحد قط، فقال تعالى مسليًا لهذا النبي الكريم لأن المصيبة إذا عمت هانت، مبينًا لمجد القرآن ولمجد آياته تحقيقًا للإنذار وتحذيرًا به لا للنصيحة: {كذبت} وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها، أسقط الجارّ فقال: {قبلهم}.
ولما لم تكن لهم شهرة يعرفون بها قال: {قوم نوح} وأشار إلى عظيم التسلية بأنهم جاءهم منذر منهم، وكانوا في القوة في القيام فيما يحاولونه والكثرة بحيث لا يسع الأفهام جميع أوصافهم، فآذوا رسولهم وطال أذاهم قريبًا من عشرة قرون ولما كان آخر أمرهم أنه التقى عليهم الماءان: ماء السماء، وطلع إليهم ماء الأرض فأغرقهم، أتبعهم من طائفتهم قصتهم بأن نزل بهم الماء فأوبقهم لما بين حاليهم من الطباق دلالة على عظيم القدرة والفعل بالاختيار فقال: {وأصحاب الرس} أي البئر التي تقوضت بهم فخسفت مع ما حولها فذهبت بهم وبكل ما لهم كما ذكرت قصتهم في الفرقان.
ولما كانت آية قوم صالح من أعظم الدلالات على القدرة على البعث، وكان إهلاكهم مناسبًا لإهلاك من قبلهم، أما لأصحاب الرس فكان بالرجفة التي هي على مبدأ الخسف، وأما لقوم نوح فلأن الرجفة تأثرت عن الصيحة التي حملتها الريح التي من شأنها حمل السحاب الحامل للماء، أتبعهم بهم، وكانوا أصحاب بئر ولم يخسف بهم فقال: {وثمود} ولما اتفق قوم هود عليه السلام والقبط بالإهلاك بالريح التي أثرت بها صيحة ثمود، أولئك مع الحجارة والرمل وهؤلاء بالماء الذي فرقه الله بالريح عند ضرب العصي، وكان لكل منهما من ضخامة الملك وعز السلطان ما هو مشهور قدم أشدهما أبدانًا وأوسعهما ملكًا لأن إهلاكهم كان أدل دليل على القدرة وأقرب شبهًا بهلاك ثمود فقال: {وعاد} وعطف عليه أقرب الطائفتين شبهًا بالهلاك بقوم نوح وأصحاب الرس فقال: {وفرعون} نص عليه لأنه ليس في مادة هذا الغرق كافر غيره، والنص عليه يفهم غيره، وما تقدم في غير هذه السورة غير مرة من وصفه بأنه ملك قاهر وأنه استخفهم فأطاعوه فيعلم كفرهم طاعة له، وأنه ليوافق ما قبله وما بعده.
ولما كان السياق للعزة والشقاق، فلم يدع داع إلى إثبات ذي الأوتاد.
ولما كان هلاك المؤتفكات جامعًا في الشبهة بهلاك جميع من تقدم بالخسف وغمرة الماء بعد القلب في الهواء، أتبعهم بهم معبرًا عنهم بأخصر من تسميه قبائلهم أو مدنهم لأنها عدة مدن، وعبر بالأخوة دون القوم لأن السياق لتكذيب من هو منهم لأنه أدخل في التسلية فقال: {وإخوان لوط} أي أصهاره الذين جبروا بينهم وبينه مع المصاهرة بالمناصرة لملوكهم ورعاياهم على من ناواهم بنفسه وعمه إبراهيم عليهما السلام كما مضى بيانه في البقرة ما صار كالأخوة، ومع ذلك عاملوه بما اشتق من لفظ هذا الجمع من الجناية له ولأنفسهم وغيرهم.
ولما كان الشجر مظنة الهواء البارد والروح، وكان أصحابه قد عذبوا بضد ذلك قال: {وأصحاب الأيكة} لمشاركتهم لهم في العذاب بالنار، وأولئك بحجارة الكبريت النازلة من العلو وهؤلاء بالنار النازلة من ظلمة السحاب، وعبر عنهم بالواحدة والمراد الغيضة إشارة إلى أنها من شدة التفافها كالشجرة الواحدة.
ولما كان {تبع} مع كونه من قومه ملكًا قاهرًا، وخالفوه مع ذلك، وكان لقومه نار في بلادهم يتحاكمون إليها فتأكل الظالم، ختم بهم فقال: {وقوم تبع} مع كونه مالكًا، وهو يدعوهم إلى الله، فلا يظن أن التكذيب مخصوص بمن كان قويًا لمن كان مستضعفًا، بل هو واقع بمن شئنا من قوي وضعيف، لا يخرج شيء عن مرادنا.
ولما لم يكن هنا ما يقتضي التأكيد مما مر بيانه في ص قال معريًا منه: {كل} أي من هذه الفرق {كذب الرسل} أي كلهم بتكذيب رسولهم، فإن الكل متساوون فيما يوجب الإيمان من إظهار العجز والدعاء إلى الله {فحقَّ} فتسبب عن تكذيبهم لهم أنه ثبت عليهم ووجب {وعيد} أي أي الذي كانوا يكذبون به عند إنذارهم لهم إياه، فعجلنا لهم منه في الدنيا ما حكمنا به عليهم في الأزل فأهلكناهم إهلاكًا عامًا كإهلاك نفس واحدة على أنحاء مختلفة كما هو مشهور عند من له بأمثاله عناية وأتبعناه ما هو في البرزخ وأخرنا ما هو في القيامة إلى البعث، بإهلاكنا لهم على تنائي ديارهم وتباعد أعصارهم وكثرة أعدادهم أن لنا الإحاطة البالغة فتسلَّ بإخوانك المرسلين وتأسَّ بهم، ولتحذر قومك ما حل بمن كذبهم إن أصروا.
ولما ذكر سبحانه التسلية بتكذيب هذه الأحزاب بعد ذكر تكذيب قريش وإقامة الأدلة القاطعة على ما كذبوا به وبطلان تكذيبهم، وختم بحقوق الوعيد الذي شوهدت أوائله بإهلاكهم، فثبت صدق الرسل وثبتت القدرة على كل ما يريد سبحانه بهذا الخلق من الإيجاد والإعدام أنكر عليهم التكذيب ووبخهم عليه تقريرًا لحقوق الوعيد، فقال مسببًا عن تكذيبهم بعد ما ذكر أنه خلق جميع الوجود: {أفعيينا بالخلق} أي حصل لنا على ما لنا من العظمة الإعياء، وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده وإعدامه {الأول} أي من السماوات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعًا من العدم، ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجددًا، ثم في كل أوان من الأطوار المشاهدة على هذه التدريجات المعتادة بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه مما ليس له أصل في الحياة، وفي إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم أو تدريجًا كغيرهم ليظنوا بسبب العجز بالخلق الأول الذي هو أصعب في مجاري العادات من الإعادة أن نعجز عن الإعادة ثانيًا، يقال: عيي بالأمر- إذا لم يهتد لأمره أو لوجه مراده أو عجز عنه، ولم يطق إحكامه.
ولما كان التقدير قطعًا بما دلت عليه همزة الإنكار: لم نعي بذلك بل أوجدناه على غاية الإحكام للظرف والمظروف وهم يعلمون ذلك ولا ينكرونه ويقرون بتمام القدرة عليه، وفي طيه الاعتراف بالبعث وهم لا يشعرون أضرب عنه لقولهم الذي يخل باعتقادهم إياه فقال: {بل هم في لبس} أي خلط شديد وشبهة موجبة للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى، بل السكوت عنه أجمل، قال علي- رضى الله عنه: يا جار، إنه لملبوس عليك، اعرف بالحق تعرف أهله.
ولبس الشيطان عليهم تسويله لهم أن البعث خارج عن العادة فتركوا لذلك القياس الصحيح والحكم بطريقة الأولى {من} أجل {خلق جديد} أي الإعادة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)}.
ذكر المكذبين تذكيرًا لهم بحالهم ووبالهم وأنذرهم بإهلاكهم واستئصالهم، وتفسيره ظاهر وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتنبيه بأن حاله كحال من تقدمه من الرسل، كذبوا وصبروا فأهلك الله مكذبيهم ونصرهم {وأصحاب الرس} فيهم وجوه من المفسرين من قال هم قوم شعيب ومنهم من قال هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم قوم عيسى عليه السلام، ومنهم من قال هم أصحاب الأخدود، والرس موضع نسبوا إليه أو فعل وهو حفر البئر يقال رس إذا حفر بئرًا وقد تقدم في سورة الفرقان ذلك، وقال هاهنا {إخوان لُوطٍ} وقال: {قَوْمُ نُوحٍ} لأن لوطًا كان مرسلًا إلى طائفة من قوم إبراهيم عليه السلام معارف لوط، ونوح كان مرسلًا إلى خلق عظيم، وقال: {فِرْعَوْنُ} ولم يقل قوم فرعون، وقال: {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} لأن فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه المستبد بأمره، وتبع كان معتمدًا بقومه فجعل الاعتبار لفرعون، ولم يقل إلى قوم فرعون.
وقوله تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ}.
يحتمل وجهين أحدهما: أن كل واحد كذب رسوله فهم كذبوا الرسل واللام حينئذ لتعريف العهد وثانيهما: وهو الأصح هو أن كل واحد كذب جميع الرسل واللام حينئذ لتعريف الجنس وهو على وجهين أحدهما: أن المكذب للرسول مكذب لكل رسول وثانيهما: وهو الأصح أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية، وقوله: {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي ما وعد الله من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم.
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}.
وفيه وجهان أحدهما: أنه استدلال بدلائل الأنفس، لأنا ذكرنا مرارًا أن الدلائل آفاقية ونفسية كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا في الآفاق وَفِى أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] ولما قرن الله تعالى دلائل الآفاق عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال: {والأرض مددناها} [الحجر: 19] وفي غير ذلك ذكر الدليل النفسي، وعلى هذا فيه لطائف لفظية ومعنوية.
أما اللفظية فهي أنه تعالى في الدلائل الآفاقية عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال: {والأرض مددناها} وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا} [ق: 9] ثم في الدليل النفسي ذكر حرف الاستفهام والفاء بعدها إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس، وهذا من جنس، فلم يجعل هذا تبعًا لذلك، ومثل هذا مراعى في أواخر ياس، حيث قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه} [ياس: 77] ثم لم يعطف الدليل الآفاقي ههنا؟ نقول، والله أعلم هاهنا وجد منهم الاستبعاد بقول: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3] فاستدل بالأكبر وهو خلق السموات، ثم نزل كأنه قال لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز ذلك، وفي سورة ياس لم يذكر استبعادهم فبدأ بالأدنى وارتقى إلى الأعلى.
والوجه الثاني: يحتمل أن يكون المراد بالخلق الأول هو خلق السموات، لأنه هو الخلق الأول وكأنه تعالى قال: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السماء} [ق: 6] ثم قال: {أَفَعَيِينَا} بهذا الخلق ويدل على هذا قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33] ويؤيد هذا الوجه هو أن الله تعالى قال بعد هذه الآية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] فهو كالاستدلال بخلق الإنسان وهو معطوف بحرف الواو على ما تقدم من الخلق وهو بناء السماء ومد الأرض وتنزيل الماء وإنبات الجنّات، وفي تعريف الخلق الأول وتنكير خلق جديد وجهان أحدهما: ما عليه الأمران لأن الأول عرفه كل واحد وعلم لنفسه، والخلق الجديد لم يعلم لنفسه ولم يعرفه كل أحد ولأن الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد والوجه الثاني: أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه، كأنهم قالوا أيكون لنا خلق ما على وجه الإنكار له بالكلية؟ وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ في لَبْسٍ} تقديره ما عيينا بل هم في شك من خلق جديد، يعني لا مانع من جهة الفاعل، فيكون من جانب المفعول وهو الخلق الجديد، لأنهم كانوا يقولون ذلك محال وامتناع وقوع المحال بالفاعل لا يوجب عجزًا فيه، ويقال للمشكوك فيه ملتبس كما يقال لليقين إنه ظاهر وواضح، ثم إن اللبس يسند إلى الأمر كم قلنا: إنه يقال إن هذا أمر ظاهر، وهذا أمر ملتبس وههنا أسند الأمر إليهم حيث قال: {هُمْ في لَبْسٍ} وذلك لأن الشيء يكون وراء حجاب والناظر إليه بصير فيختفي الأمر من جانب الرائي فقال هاهنا {بَلْ هُمْ في لَبْسٍ} ومن في قوله: {مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} يفيد فائدة وهي ابتداء الغاية كأن اللبس كان حاصلًا لهم من ذلك. اهـ.